الخميس، 1 مارس 2012

بئـر الذكريـات .. قصة قصيرة



بئـر الذكريــات 
قلم / ماجد علي

كنت أجلس في احدى المرات محاولاُ الاستمتاع بوقت اجازتي القصير بعيداً عن صخب الأصدقاء وهلكة ساعات العمل المتلاحقة أستحضر طقوسي بين جدران غرفتي اتأكد أن النوافذ مغلقة جيداً ، كي لا تتسرب أي ضوضاء أو أصوات مزعجة تصدرها السيارات المارة أسفل العقار ، رغم انها قاربت الواحدة صباحاً لكنك تشعر وكأنها السابعة مساءاً لا أحد ينظر للوقت ، لا يوجد من يهتم بالدقائق التي ولت وانسكبت في بئر الذكريات .

كان كوب القهوة الفرنسي وموسيقى موتسارت ، وبتهوفن وإيرا بالإضافة لبعض المنتديات والشبكات الاجتماعية التي اواظب على متابعتها ، هم جليسي المفضل وأنيس وحدتي التي أهرب إليها لأعيد ترتيب اوراقي ولملمة شتات نفسي ، ومثلما كنت اتصفح الأخبار في شتى المجالات وعلي اختلاف اهتماماتي ، أعود واستقر محاولاً العبث بقلمي على صفحة ورق ، و فجأة .. انقطعت الكهرباء وأصبحت محاط بظلام شديد وسكون أشد لدرجة تشعر وكأنك تصغى لصوت الطبيعة عبارة عن ( وَّش ) يختفي كلما زاد تركيز حاسة السمع . ذهبت لإحضار شمعة ببطء أسير أحاول المرور بين المقاعد المترامية علي الاجناب ولم أفلح فتخبط وسقط بوجهي على طاولة صغيرة تتوسط الغرفة وكأني لم أكن اعرف إنها هنا .. رغم انها على حالها هذا منذ خمسة عشر عام ، انتابني ضيق لحظي واحساس غاضب اشعلت الشمعة ومشيت في هدوء حتى عدت لنفس المكان ثم وضعتها أمامي مباشرة .. فأنا مازلت اريد أن اكتب وما أحلى الكتابة في هذا الجو البعيد عن التوتر ، عندما استدرت لتستفيم جلستي وجدت الشمعة امامي كأنها تراقب تحركاتي الساكنة تعمقت بالنظر فيها وسرحت .

يوم كانت أمي تعاقبني ثم نظرت يدي اتفحصها .. افتش عن تلك العلامة التي مازالت تحفر ظهر يدي ، كنت في السابعة من عمري ، لا اذكر ما فعلته آنذاك لكن اذكر العقاب جيداً .. لسعة بشمعة صغيرة مشتعلة كي لا أكرر خطأئي مرة أخرى ، تسائلت هامساً .. ترى كم شيء حدث بعدها كان يستحق لسعة كتلك .

تنفست بعمق وأنا أتلذذ قهوتي الدافئة ودون إرادة مني استرخيت على المقعد تمددت وعدت مرة أخرى وقت كان عمري سبع سنوات أي حوالي خمسة وعشرون عام انقضت ، أوراق كثيرة سقطت ، أصدقاء كانت وضاعت ، شخصيات أثرت فينا ورحلت .. أوجاع حفرت ملامح الوجه العابث وابتسامات بددتها علامات التعجب المفزعة .

لم اتذكر شيء سوى إنني كنت اتعلم كيف اتعامل مع المحيطين بي .. والشغب الذي كنت دائماً احدثه في أي مكان أتواجد به ، وبأحيان كثيرة كنت أشفق على أبي – سراً- في تذمره من افعالي .

تذكرت وقت اعطاني ( جنيه ) لكي اشتري شيئاً من البقال اسفل العقار مازال كل شيء كما هو ، كل ما تغير أن البقال أصبح سوبر ماركت كبير وأصبح الجنيه بلا قيمة تذكر .. وعندما وصلت للبقال لم أجد ( الجنيه ) فتشت نفسي ولم اجده معي ، فما كان مني إلا الهروب والاختباء أفكر بمبرر مقنع لأبي .. ، كيف يضيع مني جنيه "بحاله" – حته واحدة – كل ما همني وقتها هو التفكير في ردة فعل أبي واتخيل طريقة تعنيفه لي يدوياً وباللسان ، أستمر هروبي نحو خمس ساعات لم أشعر بمرورهم إلا عندما بدأ النهار يلملم خيوطه معلن الرحيل ، والليل يحل يأكل بظلامه كل ما تبقى من ضوء ..


خمس ساعات كانت كافية لإحراق قلب أمي والوصول بأبي إلي قمة غضبه وقلقه لا اعرف أين كنت امشي خلال تلك المدة لكني كنت أضيع بالشوارع وأفكر .. ثم أعود مرة أخرى اراقب ما يحدث عن بعد وفي مرة رأني أحد الصبية ولم يتواني في الصراخ وقال .. أهووو

وكانت هذه الكلمة بمثابة إشارة لكل من هو موجود ليتأهب الجميع في الجري نحوي فوجدت نفسي بالتالي أهرب ، افر بين الحارات والأزقه الضيقة حتى تمت محاصرتي والإمساك بي ؛ ظللت اصرخ احاول أن اخبرهم بأن أبي سيقتلني ... إن علم بضياع ( الجنيه ) دون جدوى فلا يسمع كلماتي أحد .. حتي تم تسليمي لأبي ولم ينتظر - كعادته – فأقبل مني وبرحني ضرباً ، ولم يخلصني منه سوى بعض الجيران المتواجدين ثم اقبلت أمي وضمتني في صدرها وذهبت إلي الشقة ومنها إلي غرفتي .. كانت هي دائماً الوجه الأخر لقسوة أبي ، نهر حنان عذب لا يحمل داخله أي شوائب أو ضغينه لأحد ... سألتني وعينانا تمتزج بالدموع .. أين كنت .؟

اخبرتها وانا ارتعش من البكاء أن "الجنيه" ضاع وخفت من أبي يضربني وظللت افكر ومر الوقت دون أن اشعر .. شعرت بها تخلعني من صدرها وقالت لي بنظرة حادة .. جنيه ايه ..؟ وحكت لي إنها وجدت الجنيه علي الأرض بعد نزولي وتوقعت أني سأعود مرة أخرى .. ثم صمتت وتابعت .. أتعلم ما فعلته كيف أثر فينا وأفزعنا ..؟ ثم بدأت ملامحها تتغير واعتلت خطوط الغضب جبينها العريض ، هبطت خدودها المنتفخة فانهارت قطرات الدموع دفعة واحدة ..

وبالطبع أنا لم أفكر في أي شيء من كل هذا فكرت في أصعب الأشياء ، انشغلت بغضب أبي أكثر من تفكيري بالعودة .. ابتسمت ثم انفجرت ضاحكاً . كيف كنت غبي هربت من شيء ظننته مخيف دون تفكير جيد ففعلت على اثر ذلك ما جعلني استحق عقاب غليظ علماً بأنني إن كنت عدت كنت وجدت "الجنيه" في انتظاري ولم يحدث ما حدث .

سنين كثيرة ظلت تمر امامي احاول أن اتذكر تفاصيل كل عام وارتمي داخله ، أفتش في شهوره عن نفسي من كان معي ومن سقط .. مواقف وأزمات ، ساعات من الجنون وأوقات كثيرة من السقطات .

رغم أن النجاح الذي اتمناه لم يتحقق بعد ، لكن ايضاً لا يمكن أن أصبح إنسان فاشل إلا إن اخترت أن أكون كذلك . صفحات العمر سطورها تشتبك تسفر عن حروف مختلطة بالألم والحب والحنان والعذاب والكذب انطوت واصبحت من الذكريات ، ما كنت أحسبه شراً هو الأن يتضح لي بإنه كان من نفسي ، وما كنت أجمله لأدافع عنه .. سقط وراح وانزوى في ثقوب الأيام ولم تفلح محاولاتي لأنقاده .

اخطأ كثيرة اقترفتها في حق نفسي وفي حق غيري كان النسيان كفيلاً بها أحداث كثيرة مرت ولا أدري هل للعمر علاقة بما وقع من أحداث .؟

اسئلة كثيرة تحاصر رأسي لكن رغم ما مر من العمر مازال هناك بقية فبعض العواقب يمكن أن تتغير ، مازال من الممكن أن نبث هواء جديد ينعش رئة الحياة المريضة ، وضخ دماء تتحمس الوصول لقلب الدنيا المستسلم . لازلت على استعداد بالمغامرة بكل ما أعرفه في سبيل معرفة ما لا أعرفه ..! مازلت ذلك المشاغب الصغير بملامح أكثر رجولة تتضح بين خيوطه خبرة الحياة بحلوها ومرها .
 
عادت الكهرباء مرة اخرى تبعتها صرخات الأطفال مهللين لعودتها ، ظلت الشمعة مشتعلة توشك على الأنتهاء أصبح ضوئها غير ضروري ، نفخت فيها وكأني كنت أطفيء أيامي التي مرت ، لم يبقى منها سوى الأمل في الغد والثقة باليوم وبقايا ذكريات.

تمت،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق